السعودية: بعد تجربة استمرت لعدة سنوات الكشف عن سلبيات المواقف مسبقة الدفع في شوارع المدن الرئيسية في المملكة وسبب واحد يكفي لوقفها

الكشف عن سلبيات المواقف مسبقة الدفع في شوارع المدن الرئيسية في المملكة
  • آخر تحديث

تشهد المدن الكبرى في المملكة العربية السعودية، وخاصة العواصم الإدارية والتجارية مثل الرياض وجدة ومكة المكرمة، اختناقات مرورية خانقة تتفاقم في المناطق ذات الطابع التجاري، حيث تتزاحم المحلات والمقاهي والمطاعم وغيرها من الأنشطة التي تفتح أبوابها حتى ساعات متأخرة من الليل، هذا التكدس لا يؤثر فقط على انسيابية الحركة، بل يمتد ليؤثر سلبًا على الراحة النفسية والجسدية للسكان والزوار على حد سواء.

الكشف عن سلبيات المواقف مسبقة الدفع في شوارع المدن الرئيسية في المملكة

المشهد اليومي في كثير من الشوارع المكتظة يعكس حاجة ماسة إلى تنظيم شامل لحركة المركبات، خاصة في الأحياء التي تتاخم المناطق التجارية، حيث يجد السكان أنفسهم محاصرين بزحام لا ينتهي، ومرتادين يتدفقون ليلا ونهار، دون ضوابط فعالة.

ظهور المواقف المدفوعة

في ظل هذه الفوضى المرورية، ظهرت مبادرات محلية من بعض الأمانات لتطبيق نظام مواقف مدفوعة مسبقا، تهدف إلى تقنين استخدام الشوارع التجارية وتنظيم أماكن الوقوف.

وتم تنفيذ هذا النظام في عدد من المدن مثل جدة، مكة المكرمة، بريدة، وأخيرا الرياض، حيث تولت شركات خاصة مدعومة من مستثمرين تنفيذ المشروع وتشغيله.

آلية التشغيل تعتمد على عدادات رقمية وتطبيقات إلكترونية للدفع، إلى جانب سيارات رقابية تجوب الشوارع باستمرار لمراقبة الالتزام بالدفع، ورصد أي تجاوزات.

لكن هذه الإجراءات التي تبدو مثالية من الناحية النظرية واجهت في الواقع انتقادات عديدة من المواطنين، وصلت في بعض الأحيان إلى مشاحنات مباشرة بين أصحاب السيارات والمراقبين، الذين يتهمهم البعض بتصيد المخالفات بالدقيقة دون مراعاة للظروف الواقعية.

نقص العدالة والشفافية في التطبيق

من أبرز الملاحظات السلبية التي طرحت حول هذا النظام هو غياب الشفافية والمرونة، إذ يمنح السائق مهلة زمنية محدودة غالبا لا تتجاوز 15 دقيقة قبل تحرير المخالفة، مما يشعره بأنه في سباق دائم مع الزمن، وقد يتعرض للعقوبة حتى لو تأخر دقائق معدودة.

هنا يبرز التساؤل المنطقي: لماذا لا يتم استخدام أنظمة ذكية وكاميرات مراقبة تسجل وقت الوقوف وتوثقه بشكل رقمي، مما يضمن العدل في إصدار المخالفات بعيد عن التقديرات البشرية أو التصرفات الشخصية التي قد يشوبها التسرع أو الخطأ؟

الهدف النبيل للنظام

لا أحد ينكر أن هذا التنظيم يطمح في جوهره إلى تحقيق جودة الحياة وتحسين البيئة الحضرية، حيث تؤكد الأمانات في تصريحاتها المتكررة أن من أهداف المشروع حماية سكان الأحياء السكنية المجاورة من الزحام الناجم عن تسرب المركبات من الشوارع التجارية، وإعادة الانضباط إلى الطرق العامة.

لكن النجاح في تحقيق هذا الهدف مرهون بآليات التنفيذ، ومدى مراعاتها للعدالة الاجتماعية وراحة المواطنين، لا بمجرد فرض أنظمة دون دراسة كافية لتبعاتها العملية والنفسية.

أضرار جانبية تهدد الأنشطة التجارية

أحد الآثار السلبية التي بدأت تلوح في الأفق هو تراجع إقبال المستهلكين على المحلات التجارية الواقعة في المناطق التي تطبق فيها أنظمة المواقف المدفوعة، حيث يفضل كثير من المتسوقين الذهاب إلى أماكن أخرى لا تُفرض فيها رسوم وقوف، تجنبًا للمخالفات أو لتوفير رسوم إضافية.

هذا التراجع يشكل تهديد مباشر على أرباح المحلات الصغيرة والمتوسطة، ويضع عبئ اقتصادي جديد على كاهل أصحاب الأنشطة التجارية، خاصة في ظل التحديات الأخرى التي يواجهها السوق.

تجارب عالمية يمكن الاستفادة منها

لا تزال هناك تجارب دولية ناجحة في هذا المجال يمكن الاستلهام منها، فبعض المدن في الولايات المتحدة وكندا تستخدم أنظمة مزدوجة، حيث توجد مواقف عامة بعدادات تقليدية إلى جانب مواقف خاصة تدار من قبل أفراد أو شركات، بأسعار معتدلة وخيارات متنوعة تتيح للناس حرية الاختيار.

ولعل أبرز ما يميز هذه التجارب هو العدالة والمرونة في التطبيق، وتوفير البدائل، وهو ما يمكن أن يحفز المدن السعودية على اعتماد حلول أكثر ذكاءً وواقعية.

آفاق مستقبلية للاستثمار في المواقف الذكية

في هذا السياق، بادرت أمانة منطقة الرياض إلى طرح تنظيمات تهدف إلى تحفيز الاستثمار العقاري في قطاع مواقف السيارات، من خلال مشاريع تشمل إنشاء مواقف ذكية متعددة الطوابق، أو تخصيص قطع أراضي بمساحات لا تقل عن 500 متر مربع، تستغل لتوفير مواقف منظمة وآمنة.

هذه الخطوة تمثل فرصة واعدة لإنشاء بنية تحتية متطورة لحل الأزمة المتفاقمة، وتخفيف الضغط عن الشوارع، وتقديم خدمة حضارية تليق بالمدن السعودية الحديثة.

التنظيم مطلوب ولكن لا بد من الموازنة

في نهاية المطاف، فإن تنظيم مواقف السيارات أمر ضروري لإعادة الانضباط لشوارعنا، وضمان السلامة والراحة للجميع.

ومع ذلك، فإن تطبيق هذا التنظيم يجب أن يراعي البعد الإنساني والاجتماعي، ويصاغ بطريقة عادلة تتسم بالشفافية والرحمة، لا أن يتحول إلى عبء إضافي على المواطنين والمقيمين.

نأمل أن تشهد المرحلة المقبلة مراجعة شاملة لهذا النظام، وتصحيح جوانب القصور فيه، بما يحقق الهدف الأسمى: مدن أكثر تنظيم، وبيئة حضرية أكثر إنصاف وراحة للجميع.